الانتخابات الفلسطينية واستحقاقاتها

أبو أحمد فؤاد

عضو المكتب السياسي

للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

 

 

جرت الانتخابات في جو من الشفافية والنزاهة باعتراف كل المراقبين المحليين والعرب والأجانب. ولأول مرة في تاريخ المنطقة تقف مؤسسات السلطة وأجهزتها المختلفة موقفاً محايداً من العملية الانتخابية، مما أضفى على تلك الانتخابات طابعاً جماهيرياً. وكانت نسبة المشاركة جيدة، حيث وصلت إلى 73% وهذا مؤشر لمدى تعطش ورغبة الفلسطيني إلى إثبات جدارته وقدرته على تحمل المسؤولية حتى في ظل أقسى وأحلك الظروف حيث الحواجز والإجراءات الإسرائيلية التي حالت دون مشاركة المقدسيين بصورة كاملة نظراً للقيود التي وضعتها الحكومة الإسرائيلية على كيفية مشاركة أهل القدس في الانتخابات.

 

وقد شكلت تلك الانتخابات إحدى مصادر القوة الفلسطينية، إذ استطاعت الساحة من توحيد جهودها في المجالات السياسية والكفاحية والاقتصادية بحيث تتمكن من ترسيخ تقاليد احترام الديمقراطية الانتخابية ونتائجها، التي كرست التعددية السياسية وقدرة الجماهير على محاسبة المسيئين ومخالفاتهم. والأهم من ذلك أن الجماهير أرادت أن تؤكد للعدو الإسرائيلي أن سياساته طيلة السنوات الماضية التي كرست الاحتلال وممارساته لن تتمكن من ثني شعبنا عن مواصلة نضاله ودعمه للقوى المتمسكة بالثوابت ونهج المقاومة، ولتؤكد للمجتمع الدولي ومؤسساته أن الضغوط والإملاءات ستفضي إلى غياب الأمن والسلام في المنطقة، وأن سياسة الانحياز للعدوان وإرهاب الدولة المنظم والاحتلال وممارساته ستبقى وصمة عار في وجه دعاة الديمقراطية والأمن والسلام، إذا لم يتمكنوا من إجبار إسرائيل على وقف اعتداءاتها المتكررة ضد الشعب الفلسطيني وأرضه ومقدساته ومدنه ومخيماته وقراه.

 

ونحن في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين كنا دوماً من رواد إصلاح النظام الانتخابي على قاعدة التمثيل النسبي لمختلف القوى وارتباطاً بحجم وجودها الجماهيري أن تشارك في صياغة النظام السياسي الفلسطيني واستراتيجيته السياسية والمجتمعية والكفاحية. لكن ألأخوة في حركة فتح، وانطلاقاً من زاوية مصالحهم الخاصة واستمرار السيطرة والهيمنة على القرار السياسي الفلسطيني واحتكار تمثيله لفترة طويلة من الزمن دون الالتفات لباقي مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية ووجهات نظرها حيث ساهم العديد من القوى بقسط في المشاركة الفاعلة في النضال الوطني في كافة محطاته. وبالتالي فإن من حقهم على أشقاءهم في حركة فتح الإصغاء إلى آراءهم ووجهات نظرهم بخصوص النظام الانتخابي كجزء مهم لمشاركتهم في صياغة التوجهات الوطنية انطلاقاً من المصلحة العامة للوطن وتشبثاً بأهدافه وثوابته الوطنية.

 

ولذلك رفض الأخوة ممثلي حركة فتح الاستجابة لطلب الرئيس محمود عباس باعتماد التمثيل النسبي والتزموا بعد عناء باتفاق القاهرة ظناً منهم أنهم سيحافظون على مواقعهم في المجلس التشريعي.

 

ولكن النتائج جاءت معاكسة لتوقعاتهم حيث حصلت فتح على خمسة عشر عضواً في الدوائر في حين حصلت على 28 مقعداً في القائمة النسبية وهذا يؤشر لخلل كبير في توقعات الأعضاء السابقين لحركة فتح في المجلس التشريعي. وحصدت حركة حماس غالبية الأعضاء في الدوائر (45 حماس + 4 مستقلين على قوائمهم) ليصل المجموع إلى 49 عضواً.

ولعلنا لن نجافي الحقيقة حين نؤكد أن تلك الانتخابات ترافقت مع تفاعلات البعد الإسرائيلي وتأثيراته المباشرة على مرأى الناخب الفلسطيني والأبعاد الدولية والإقليمية والتي عبرت عنها الضغوط والتصريحات النارية للإدارة الأمريكية ورئيسها بوش وتناغم الاتحاد الأوروبي بلسان الممثل الأعلى للسياسة والأمن الأوروبي خافيير سولانا أثناء زيارته لإسرائيل والأراضي المحتلة، بالإضافة إلى طبيعة الأوضاع في الأراضي الفلسطينية وممارسات حزب السلطة أثناء وفي فترة التحضير للانتخابات التشريعية، مما انعكس سلباً على صورة فتح وحضورها الجماهيري.

 

نتائج الانتخابات التشريعية وقراءتنا لأهم أسبابها ومدلولاتها

حققت حركة حماس فوزاً كبيراً في هذه الانتخابات مكنها من الانتقال المباشر ودون مقدمات إلى الحصول على أغلبية في المجلس التشريعي، وبالتالي مسؤولية السلطة بكل ما تحمله هذه المسؤولية من انعطاف سيترك آثاره على مستقبل النظام السياسي الفلسطيني. ومثل هذا الانتصار نجاحاً لخيار المقاومة ومحاسبة الفساد المالي والسياسي والأمني الذي رافق مسيرة السلطة التي عملت طيلة السنوات الماضية دون الالتفات لمسؤوليتها في التخفيف من معاناة الجماهير التي استوعبت العذابات التي ألحقها الاحتلال وممارساته، ولكن لم تكن قادرة على تحمل وزر أخطاء وخطايا السلطة في كافة مجالات الحياة. ونعتقد أن هذه الأسباب مجتمعة شكلت الأرضية لنجاح حماس الباهر حيث خاضت معركتها الانتخابية موحدة ومتكافئة ومتضامنة على كافة الجبهات، وساعدها في ذلك انسداد أفق التسوية السياسية بسبب ممارسات إسرائيل ورؤيتها الأحادية لآفاق حل لا يمكن الفلسطينيين من انتزاع حقوقهم المشروعة في إقامة الدولة المستقلة كاملة السيادة وحق العودة والتعويض للاجئين الفلسطينيين وفقاً لقرارات الشرعية الدولية.

 

ولهذا فإن حركة حماس مطالبة بوضع أجندتها في خدمة القضية الفلسطينية والناخب الذي أعطاها موقعاً قيادياً في السلطة، مما يضفي مزيداً من المسؤوليات السياسية والاجتماعية والكفاحية، وهذا يتطلب من الحركة القدرة على استنباط مواقف وسياسات تساهم كحد أدنى في عدم وقوع الوضع الفلسطيني برمته أمام استحقاقات كارثية تنذر بتعقيد الوضع الفلسطيني وتأزمه انطلاقاً من وقائع جديدة كرستها صناديق الاقتراع بإعطاء حماس دوراً جمعياً تجاه الشعب الفلسطيني وهمومه وتوقه إلى رؤية الساحة تعمل وفق أسس وآليات وطنية جديدة تقنع المواطن بجدوى وأهمية خياراته الانتخابية.

 

وهنا لابد من قراءة متأنية لطبيعة التحولات العميقة التي أحدثتها سنوات الخيبة السياسية في صفوف الشعب واصطفافاته الجديدة لمصلحة البحث عن أشكال وأساليب وطرائق عمل جديدة تأخذ بعين الاعتبار احتياجات الناس وتطلعاتها وطبيعة العدو ومشاريعه ومخططاته الهادفة إلى تطبيق سياسة انفرادية أحادية لا تبعد الخيارات العسكرية الإسرائيلية وتبقى على الأوضاع الفلسطينية المعقدة والشائكة حائرة أمام هول الوقائع والحقائق الداخلية وترابطها مع الأبعاد الإسرائيلية والإقليمية والدولية.

 

فالفرصة أمام حماس مفتوحة لخوض غمار المهمة الجديدة بنجاح مرتبط بمدى قدرتها على حل علمي مناسب للتساؤلات التي يطرحها واقع الحال والوضع الفلسطيني كونه ما زال تحت الاحتلال وتحتاج مؤسساته إلى إصلاح وتغيير ينسجم ومتطلبات المرحلة السياسية القادمة وإشكالياتها الدولية بتنوعها والحقوق والثوابت الوطنية ومخاطر الضغوط الخارجية على المؤسسة الفلسطينية لإفشال تجربة الانتخابات الديمقراطية. ولذلك لا بد من مشاركة كل مكونات الفعل الوطني من دراسة إستراتيجية المواجهة الوطنية بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والكفاحية بعيداً عن سياسة الإقصاء والاحتكار والتي دفع ثمنها الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية غالياً. وما زلنا نتلقى الضربات من جراء عدم استيعاب القيادة السياسية لمخاطر الاستجابة المجانبة لمطالب المعسكر المعادي الأمريكي الإسرائيلي والتي قادت ما سمي بالمسيرة السلمية نحو آفاق مسدودة بالرغم من حجم التضحيات والأثمان التي دفعها الطرف الفلسطيني.

 

فإسرائيل المعتدية والمتغطرسة والعدوانية واصلت عدوانها ومجازرها في ظل غياب واسع لسياسة وطنية قادرة على فضحها وتعريتها، واستفادت بأقصى الدرجات من ضبابية الموقف الرسمي وتعثره وانعدام فاعليته لغياب الرؤى والمواقف الفلسطينية المتمسكة بالثوابت والأهداف الوطنية، والفرصة مهيأة لإمكانية إعادة الأمور إلى نصابها، حيث لا بد من تغيير قواعد اللعبة السياسية التي كانت مجحفة بحق الشعب الفلسطيني وحقوقه. وتأتي الدعوة لعقد مؤتمر دولي بمشاركة الأمم المتحدة كحل مقبول يمكن أن يمهد الطريق لتمكين الفلسطينيين من تحقيق دولتهم المستقلة الكاملة السيادة وإجبار إسرائيل على الانسحاب من الضفة وغزة وفقاً لقرارات الشرعية الدولية، وهذا مرتبط بمستوى الدعم العربي الرسمي لمثل تلك التوجهات الذي يبدو في ظروفنا ضرباً من الخيال، لكن الصحوة الشعبية العربية ربما ستجبر هذا النظام على القيام بدعم جزء من خيارات الشعب الفلسطيني.

 

أبرز الحقائق التي أكدتها نتائج الانتخابات التشريعية

-    حصول حماس على أغلبية مريحة تمكنها من تشكيل الحكومة وحيدة، مما وفر الفرصة للحركة إلى إجراء حوارات ومشاورات داخلية في صفوفها، وفي إطار الحركة الوطنية الفلسطينية ومع الأطراف الغربية والصديقة لتلمس أفضل السبل لتجاوز حماس "قطوع" الاستحقاقات المليء بالضغوط والتهديدات الخارجية.

-    ارتباك رافق مسيرة حركة فتح قبل وبعد الانتخابات، وقد اثر هذا الوضع على الحملة الانتخابية للحركة وصورتها وزاد الأمر تعقيدات خوض عدد كبير من كوادر وقيادات فتح الذين لم يحالفهم الحظ ليكونوا ضمن لوائح الحركة قبل وبعد توحيدها، سواء للقائمة النسبية أو مرشحي الدوائر مما أثر بشكل مباشر على فرص نجاح ممثلي الحركة وبشكل رئيس في الدوائر.

-    خاض اليسار الانتخابات منقسماً ومختلفاً ومحملاً لبعضه البعض أسباب عدم الوصول إلى قائمة موحدة مما أدى إلى عدم  توفر الفرصة لحصد هذا التيار الجزء الرئيسي من مناصريه ومؤيديه في الشارع الفلسطيني والذي يتراوح بين 20 و30%. وقد حصدت تلك القوى أقل من 50% من رصيدها، وهذا يستدعي دراسة ومراجعة جادة لكل الأطراف بحيث تكون قادرة على تحديد الخلل وتجاوزه لمصلحة بلورة تيار ديمقراطي كضرورة موضوعية للحالة الوطنية وطبيعة الاستقطاب في الساحة الفلسطينية. وهذا يتطلب وقفات جادة لمراجعة البرامج والرؤى السياسية والإيديولوجية وأهمية استيعابها لواقع تطور شعبنا وانتماءه وتراثه وحضارته.

-    إن نظام الدوائر لا يستطيع أن يلبي احتياجات الساحة الوطنية للتعددية وتداول السلطة، فحماس على سبيل المثال حصلت على 44.44 من الأصوات وحصدت 73% من أعضاء المجلس التشريعي مما يتطلب ضرورة إجراء إصلاحات في القانون لمصلحة النسبية خدمة لشعبنا ومصالحه الوطنية العليا. بينما لو كانت الانتخابات على أساس النسبية سيكون رصيد حماس 58عضواً مقابل 56 لفتح، و6 للشعبية، و4 للبديل، و4 للبرغوثي و4 للتيار الثالث.

-     شكل الفلسطينيون نموذجاً صادقاً وإيجابياً في سلاسة الانتقال للسلطة حيث التزمت حركة فتح بضرورة احترام النتائج ورأي صندوق الاقتراع وقبلت بما أفرزته صناديق الاقتراع وأعلنت استعدادها لمواقع المعارضة ومد يدها لمساعدة حماس في أداء مهمتها الجديدة.

-    لقد أكد الفلسطينيون على حقيقة استمرار الاستعداد الشعبي لدعم ومساندة المقاومة على الرغم من كل الظروف والتهديدات من الأطراف الإقليمية والدولية والمحلية أحياناً، وهذا يعزز الفرصة لدى القوى الفلسطينية للتوافق على رؤية وطنية تحافظ على الثوابت وتصونها وتتمسك بخيار المقاومة ارتباطاً بالظروف والمعطيات المحيطة بنضالنا الوطني. فالمستقبل يحمل لنا المزيد من الفرص للتصرف بحكمة خدمة لأهدافنا ومصالحنا الوطنية وفاءً للشهداء والأسرى وتضحيات كبرى قدمها شعبنا وحركته الوطنية.

 

المطلوب في المرحلة القادمة

1)   أن تعترف حركة فتح، وبصدر رحب، نتائج الانتخابات. وأن تقيم وضعها لعقلية نقدية تجعلها قادرة على تخطي أزماتها الداخلية، ورسم خط سياسي يتناسب مع ثوابت حركة فتح الأساسية والثوابت الوطنية الفلسطينية.

2)   أن تقوم حركة حماس بالحوار مع كافة القوى والشخصيات الوطنية لوضع برنامج المرحلة المقبلة على القواعد السياسية والاجتماعية والمسلكية التي على أساسها أعطت الجماهير هذه الثقة لحركة حماس.

3)    اعتبار الحلقة المركزية في هذه الفترة على صعيد البناء الداخلي هي استكمال انتخابات المجلس الوطني في بلدان الشتات حتى نستكمل العملية الديمقراطية بانتخاب الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، م.ت.ف، والمجلس الوطني الفلسطيني أي البرلمان الفلسطيني الذي يمثل كل الشعب الفلسطيني داخل الوطن وخارجه.

4)   أن تدعو هيئة رئاسة المجلس الوطني، واللجنة التنفيذية للمنظمة إلى الإسراع في عقد اجتماعات اللجنة التحضيرية التي ستعد للانتخابات التكميلية للمجلس الوطني.

5)   أن تحسم اللجنة التحضيرية، والفصائل، العدد النهائي لأعضاء المجلس الوطني بحيث لا يزيد عن 300 عضو أقصى حد، وأن سياسة التعويم ستكون مضرة، وأي اقتراحات بتوسيع المجلس الوطني ليصبح على غرار ما كان قائماً سابقاً، أي بحدود 700 إلى 800 عضو، هو أمر مرفوض وخطير.

6)   إن أي برنامج لا يعتبر حق العودة، عنواناً رئيسياً، وخيار المقاومة بجميع أشكالها ومن ضمنها الكفاح المسلح، سيكون برنامجاً متساوقاً مع ما تطرحه القوى المعادية، ولن يكون ملبياً لطموحات الجماهير وإراداتها التي عبرت عنها في الانتخابات الأخيرة.

7)   على القوى اليسارية والديمقراطية أن لا تعلق فشلها على شجب الآخرين، بل عليها أن تعترف بالهزيمة، وتستخرج الدروس بنقد نفسها، وتعمل على تصحيح أوضاعها وربما بعضها يحتاج إلى إعادة بناء على مختلف الصعد.