حرب لبنان أو فيتنام اسرائيل

محمود كامل فقيه


حرب تموز، حرب مست للمرة الاولى بشكل جذري اموراً لها قدسيتها في المجتمع الصهيوني. مثال على ذلك ما يسميه الصهاينة "الإجماع القومي"، بالإضافة إلى الهالة العسكرية للجيش الذي لا يقهر، والهزيمة المذلة لكتيبة الغيلان او "جولاني" مزينة بالاحتجاجات اليومية ضد الحرب داخل المجتمع الصهيوني، وحتى داخل الجيش.


فكانت المرة الأولى التي تخرج فيها للعلن وبشكل فاضح حقيقة تهرب العسكر من الخدمة بسبب تساقط القتلى كل يوم في صفوف الجنود، وبسبب الاقتناع بأن هذه الحرب لا مصداقية لها.


في حرب تموز وقف الكيان الصهيوني لأول مرة أمام وضع خرق فيه الاجماع القومي في حالة الطوارئ. ففي أثناء الحرب، قامت التظاهرات في تل ابيب عاصمة الكيان الصهيوني، وأفرزت هذه التظاهرات حركات احتجاجية وضعت الحكومة الاسرائيلية في موقع حرج. وأضحت أمام خيارين: إما تكمل الحرب التي لم يقتنع المجتمع الصهيوني بها، أو تخرج من الحرب مهزومة بلا اي هدف يذكر كما حصل.
إن خرق الإجماع القومي الذي لطالما تغني به المجتمع الإسرائيلي يشكل بحد ذاته انتصارا واضحا للمقاومة اللبنانية. ويتبين لنا هذا الأمر عبر دراسة ما أنتجته حرب تموز من ارتدادات ضمن المجتمع الإسرائيلي، ومن انعكاسات سلبية على حكومة اولمرت أودت به إلى التحقيق.


وعادت صور اجتياح لبنان عام 1982 الى الظهور، وبشكل أوسع بسبب انتشار الاعلام والثورة الإعلامية التي انعكست سلبا هذه المرة على إسرائيل. ففي عام 82 كانت لاول مرة في تاريخ دولة اسرائيل يرفض فيها رجال الاحتياط الخدمة العسكرية في اثناء الحرب، ولأول مرة يرفض رجال الاحتياط استلام أوسمة الحرب التي شاركوا بها. ولم تكن الصورة بعيدة جدا عما جرى في تموز 2006.


ويمكننا القول بأن هذه الحرب كلفت الحكومة الإسرائيلية، بسبب هذا الاحتجاج الشعبي، ثمناً جماهيرياً سياسياً باهظاً. ويمكننا أن نشبه ذلك بالوضع الفيتنامي حين رفضت قطاعات كبيرة من الجمهور الأميركي مواصلة تحمل ثمن الحرب.
ولا بد في هذا المجال، من إلقاء الضوء على ظواهر اساسية تكشفت في المجتمع الإسرائيلي، وتبين أنها متأصلة فيه.


أولاً: البلبلة القائمة بشأن "حرب الوجود"، وحروب أخرى، حيث كان مصدر هذه البلبلة الخطأ الشائع في تقويم حرب يوم الغفران مع مصر وسوريا، وهذا الخطأ لم يمنع شمعون بيرز من التصريح أثناء حرب تموز 2007 بان هذه الحرب هي "حرب وجود دولة إسرائيل".


ثانياً: الخريطة السياسية والتعقيد القائم بين ما يعرف باليمين واليسار، وإمكانية استيعاب حركة جديدة استلمت لتوها الحكم بعد ولادتها مباشرة "حزب كاديما".


ثالثاً: أفول نجم الظاهرة أرييل شارون الذي حمل في شخصيته صبغة الزعيم الفاشيستي المقنع والذي كان دائما مطلبا إسرائيليا في أوقات كهذه. إن غياب شارون عن الساحة واستلام أولمرت مكانه في وقت كهذا أربك الحكومة في أمور لم تكن معتادة عليها. فالإخفاقات انعكست سلبا على الرأي العام الذي صار ينادي شارون في غيبوبته لانقاذ المجتمع الإسرائيلي. وهذا ما عبرت عنه الصحف الإسرائيلية في عناوينها حين قالت " شارون استيقظ، أولمرت في غيبوبة".


رابعاً: شارون في حد ذاته كان عقبة امام أولمرت الذي لم يملأ مكانه لا عسكريا ولا في السلطة، في حين كان الشعب يأمل بخلف لا يختلف كثيرا عن السلف، فلم تكن المعادلة. فمصداقية أولمرت أثناء الحرب لم تكن عالية في اي وقت بل تضررت أكثر فأكثر. لقد بدت تصريحاته عن تحقيق الاهداف عديمة الاساس ومختلقة. يستنتج من ذلك ان اولمرت لم يكن عسكريا متميزا، ولا حتى قائد فرقة في دولة لم تكن لديها الوسائل للجمه مع وزير حربه عمير بيريتز، ولا حتى للجم دان حالتوس. بل اكتفت في طلبهم للتحقيق بعد وقف الاعمال الحربية ما ادى به الى الاستقالة حفاظا على ماء وجهه.


خامساً: شخصية الجيش الاسرائيلي خرجت للعلن، وانعكست على الحرب سلباً بالاضافة الى السيل الجارف من الانتقادات لدرجة كان من الصعب جدا اصلاح الاضرار بعدما انكسرت هيبة "جيش الدفاع الذي لا يقهر"، وأظهرت دبابات الميركافا الحديثة تخلفها أمام صورايخ مجهولة الصنع والهوية في بعض الاحيان حيث لم تتمكن حكومة اولمرت من تبرير الإخفاقات.


سادساُ: انكشاف المجتمع الاسرائيلي بانه مجتمع قائم على الرموز ووسائل الإعلام، يسود فيه استقطاب عاطفي بالنسبة الى الشؤون الخارجية والأمن المعقدة. وربما يعود مصدر هذا الاستقطاب حول الشؤون الداخلية بالذات، إلى خواء ثقافي، وكردة فعل محبطة على مثالية خاوية المضمون، الحالة التي تسعى دائما اسرائيل الى ترويجها في الاعلام العالمي كمعاداة السامية والظلم الطائفي "اليهودي" في العالم الذي لا وجود له، واستغلال مزاعم المحرقة اليهودية على ايدي النازيين في ألمانيا، إن مجمل هذه القضايا يستغلها الكيان الصهيوني لبناء مجتمع قائم على العاطفة والرموز كما قلنا.


سابعاً: ولأول مرة نرى معارضة اسرئيلة للسياسة الامريكية في الشرق. بحيث بتنا نسمع اصوات صهيونية في الداخل تندد بالحرب على لبنان، وتنتقدها على أنها حرب جورج بوش بيد إسرائيلية. كشفت هذه الأمور النقاب عن التلازم القائم بين اجندة الولايات المتحدة والكيان الصهيوني: فالمخططون هم الولايات المتحدة الامريكية وإسرائيل، يساعدهما تابعون كالاتحاد الأوروبي وهيئة الأمم المتحدة.
لقد تمادى، برأي المجتمع الصهيوني، كل من بوش وبلير في الضغط على اسرائيل لمواصلة الحرب، مما أدى إلى استياء الرأي العام الصهيوني.


ثامناً: لم تكن الصحافة الصهيونية بعيدة عما يجري بدليل انها لم تتردد في توجيه النقد لسياسة الحكومة. وكان من الغريب ان تقوم الصحف الصهيونية بتوجيه النقد الى العمليات العسكرية خلال الحرب وأثناء تساقط صورايخ المقاومة اللبنانية على شمال الكيان الصهيوني. لطالما كان الجيش الإسرائيلي، من وجهة نظر وسائل الاعلام الإسرائيلية، "بقرة مقدسة". وكان أن تغيرت هذه النظرة للمرة الأولى بعد حرب تموز على لبنان. فالحرب كان مخططاً لها أن تستمر بضعة أيام، على غرار حرب الايام الستة، وأن تكون نتائجها محددة وأهدافها واضحة. لكن الأمور تطورت بشكل مغاير، خصوصا بعدما فرغ بنك الأهداف دون تحقيق اي نتيجة تذكر. لقد اشتركت الصحافة الإسرائيلية في النقاش الشعبي خلال الحرب، وكانت المؤثر من خلال ابراز الفارق بين صور الجنود الذاهبين الى الحرب وصورهم عائدين منها اما في صناديق او معوقين جسديا ونفسياً.


تاسعا: لقد وُضع كل من الجيش والمجتمع الصهيونيين أمام مفاجآت عدة، لم يكن لهما عهد بها من قبل، في الحروب الخمسة السابقة. تفاجأ الجيش الصهيوني بمفجآت استرتيجية وتكتيكية في مشروع الطيبة ومارون الراس، وفي مختلف المواقع في الجنوب. فظهر ضعف الجيش الاسرائيلي كأنه على ارض غريبة عليه رغم احتلاله لها سابقا. وتبين انه لا يعرفها جيدا، أو انه امام مجموعة مقاومة قد اخذت بالحسبان ما قد يقوم به عدوها. فقد تمكنت المقاومة اللبنانية من جر اسرائيل الى حرب استنزاف أرغمت من خلالها انف الدول العظمى على طلب وقف إطلاق النار، بعدما كانت ترفض ذلك في الساعات الأولى للحرب. فقد توغلت اسرائيل في عمق المنطقة "الفيتنامية" الوحيدة في الشرق الاوسط التي فيها سكان مختلفون قادرون على مجابهتها بأساليب جعلت الجيش الصهيوني وآلته الحربية المدمرة عاجزاً عن السيطرة عليها.


أما بالنسبة للمجتمع الصهيوني، فهذه المرة الاولى التي يشم فيها رائحة البارود المنطلقة من الصواريخ المهاجمة. إن هذه الأرض التي أتوا إليها على أنها ارض العسل واللبن، لم يتوقعوا ان يلاقوا فيها موتا وحربا. لقد وصلت الصورايخ الى الخضيرة التي هي على نفس خط تل أبيب، وبالتالي لو أدرنا وجه حاملة الصورايخ بعض الدرجات المئوية لكنا اصبنا عاصمة الكيان. لم يعتد سكان المستعمرات الشمالية على عيش الملاجىء ولا على النزوح والتهجير. لم تستوعب اسرائيل ضرب حيفا والعفولة فكان ذلك الخرق الأكبر. ولعله في أي مواجهة أخرى لن تقبل المقاومة بأقل من ضرب تل أبيب. وإذا ما نشبت حرب قادمة فسنرى الصواريخ تصل إلى أبعد المناطق في الكيان الصهيوني.


لقد تميز الكيان الصهيوني في الماضي بقوته الداخلية وقوته المعنوية وبقدرة جنوده المستندة إلى ارفع تكنولوجيا الحرب. وبهزيمة هذا الجيش على يد المقاومة الإسلامية تضرر الكيان الصهيوني بشكل كبير، وبدأ الآن بقطف ثمار حربه العدوانية. ولعلنا أمام بداية انهيار مجتمعه المتناقض الذي تتصارع فيه صقور اليمين مع حمامات اليسار، وتطغى عليه السرية بسبب الحماية الخارجية، ولكن متى زالت الحماية ذهب الكيان. ويبقى سؤال رهن الأيام: هل ستتخلى أمريكا وخدامها الأوروبيون عن إسرائيل بعد هزيمتها في حرب تموز وتداعياتها على المستوى الداخلى والخارجي؟

 

محمود كامل فقيه