القضية

محمود كامل فقية

قتلوها وما سألوها ولم يشتبه عليهم بانهم قتلوها. حينما ولدت ادعت أمومتها  ثلاث وعشرون أماً، وكان أبوها واحداً معروفا. تبنتها الأمهات، وهي البريئة من ارحامهن النجسة. أول ما نطقت به في طفولتها كان حرف الضاد فكان مضاداً لمبادئهم الراسخة حين قادهم لورنس العرب الى بيداء الذل والهوان، وتقاسم معهم أنفسا ما ملكوها، وما ملكها هو.

رأيتها تتأمل في شؤون باريها وهي التي طمرها تراب الحقد. ما رأيت غير عينيها تتأمل وتنطق وتتكلم بلغة يتقنها الجميع، ولكن طبع على قلوبهم فلا يفقهون.

سألتها ما حالكِ؟ يا من نبذك الجميع ممن تبنوك بعدما كنت أنت أنت، وبقيت أنت أنت، ولكنهم ما عادوا هم هم.

نظرَت إلي باستغراب، وقالت: لي زمن لم اسمع كلمة عربية فالكل هنا كانوا ينطقونها ولكنهم حين حملوني  معهم وراء الافق تغيّرت جلودهم وتحولت ألسنتهم فما عدت افهمهم وما عدت اعرف ما أنا؟ وما قيمتي؟ إلى حين دُسََّت روحي في التراب على هَون.

قلت لها يا ابنة الأرض، يا أخت البيداء، مصيبتك بالكنوز التي تحوينها، لا تعتقدي بان ترابك الأسود هو أرخص من زيتهم المغشوش بكفر محتكريه.

قاطعتني قائلة: لقد باعوني وأنا الحرة، أنا آخت يوسف، أنا ابنة يعقوب، ادّعوا أنهم أهلي كي يبيعونني للذئب هذه المرة لا لعزيز. أنا ابنة نجد، سار الفرات في عروقي، باعوني قطاع الطرق وادّعوا بأنهم  لي حافظون، فلم يبقَ مني غير رسمي.

قلت لها: ما زلت حية يا ابنة الارض...

قاطعتني من جديد وقالت: و ما نفعي بعدما نعاني القاصي والداني؟ ألبسوني الكوفية السوداء فرأيت لون الحداد في خطوطها فنزعوا عني العبائة واغتصبوني، وأنا الحرة العذراء، أنا حرمهم، ما اغتصبني احد من الاجانب بل اغتصبتني المحارم. وتركوني لتأكلني الأوباش التائهة فكانت الذئاب أرحم وأحن منهم.

لقد حملوا نعشي وأنا في عديد الأحياء، شيعوني وأقاموا جنازتي ورثوني وكأني نبي قد مات وأنا ما زلت حية.

لقد تمنيت لو ولدت في ضواحي كوبا او في حزام بؤس في فنزويلا، أنا يا صاحبي التي سلبوها وجرّدوها، وأنا التي ولدت لأبقى، أنا أخت الزمن ولكنهم قتلوني فتية.

قلت لها: لعلهم الرومان، أعرف بأنهم قد ساروا من هنا وبنوا عليك عمرانهم.

قالت: لا ليسوا هم. فقلت: لعلهم الفراعنة. فقالت يا ولدي وأين نحن من فراعنة الماضي. فقلت: لعلهم التتار الذين احرقوا مكاتبك. فأجابتني: كان في قلب المغول رحمة اكثر مما في قلوب من شروني، قلت لها من هم هؤلاء السفلة الخونة.

قالت: انهم سفهاء الأمة أخوة يوسف، وفراعنة العصر ومغول الفكر.

قلت لها: شوقتني يا ابنة الأرض من أنت؟

قالت: أنا ابنة يعرب، أنا القضية.