من "القرنة النائمة" إلى "الجنرال" العائد مروراً ب "مجموعة ال 12" ووثيقة التأسيس(1)
عون اليوم وجعجع غداً: نصاب سياسي مسيحي جديد على حساب..صفير

 

 

السفير 15 حزيران 2005

حسين أيوب
 

لقاء قرنة شهوان اختراع بطريركي بامتياز. في لحظة مفصلية، داخلية وإقليمية، كان لا بد من إطار يحفظ دينامية خطاب بكركي التثويري بعد العشرين من أيلول ألفين. كانت مجموعات <<القرنة>> <<نائمة>> بالمعنى الثوري للكلمة في عهدة <<الفدائي الأسود>> يوسف بشارة. قيل عن <<القرنة>> إنها <<الجبهة اللبنانية الجديدة>>، لكن الحقيقة أثبتت غير ذلك. في <<الجبهة>> كان الطغيان للأحزاب أو بالاحرى للحزب المسيحي الأول. في <<القرنة>> طغى حضور الشخصيات. لماذا؟ بعد انتهاء الحرب، انتقل زعماء الحرب المسلمون، وتحديدا نبيه بري ووليد جنبلاط، إلى نعيم سلطة الطائف. شريكهم السني رفيق الحريري، جاء من خارج <<النادي العسكري>> أو التقليدي، لان الحرب إما طحنت أو أنها لم تفرز قيادات سنية قوية. في المقابل، أقصي ميشال عون ودُفن حزب الكتائب <<الأصلي>> وعوقب سمير جعجع بالسجن المؤبد. تنوع مشهد الفراغ السياسي المسيحي وصارت له مفرداته مثل المقاطعة والاستنكاف والإحباط والحداد السياسي. تدريجيا صارت العمليات الانتخابية في أكثر مناسباتها عبارة عن تعاقد أو بالاحرى تواطؤ سياسي بين قوى تمثل الأكثرية الإسلامية وأخرى تمثل الأقلية المسيحية في غياب الأحزاب والقوى المنبوذة التي صار اختصاصها المظاهرات والاعتقالات والتوقيفات والملاحقات وأعمال التهديد والترغيب. قيل إن المسيحيين يعيدون تجديد نخبهم السياسية وقيل إن البطريركية المارونية صارت الناطق السياسي الأوحد باسم مسيحيي لبنان. تدريجيا تحولت <<النخبة>> <<القرنة>> إلى مكتب سياسي للبطريركية المارونية. قيل عن وثيقتها التأسيسية إنها ميثاقية وان جماعتها مهجوسون ببعث الحيوية في المجتمع المسيحي. وكلما كان يقترب موعد الانسحاب السوري من لبنان، بعد الرابع عشر من شباط الألفين، كلما كان يقترب موعد رجوع ميشال عون والإفراج عن سمير جعجع وعودة أمين الجميل إلى الصيفي <<الأصلية>>.

 
كان مقدرا لقانون الألفين حسب الراضين به <<على مضض مستحب>>، أن يعيد إنتاج صفقة تعاقد الاكثريات المسلمة مع الأقليات المسيحية ودائما تحت سقف الرعاية البطريركية. ولكن ميشال عون قرر أن يسرق من <<القرنة>> فلسفتها القائلة بالنطق بلهجة كميل شمعون والترويج الدعائي لأفكار فؤاد شهاب الإصلاحية، وما أكثر ما يحتويه قاموسها من مصطلحات. ما عجزت <<القرنة>> عن فعله ، توفرت لدى <<الجنرال>> العائد <<كاريزما>> ترجمته، فإذا بالسيدة العذراء، تدير وجهها في الثاني عشر من حزيران نحو مدخل كسروان الجنوبي، ولكن هذه المرة، لمنع سعد الحريري ووليد جنبلاط من التسلل وفرض معادلاتهما في المعاقل المارونية التاريخية الصافية. وإذا بميشال عون يقتحم خط التماس الشهير مع قوات سمير جعجع في نفق نهر الكلب وتفعل العذراء فعلها ويسقط <<القرنويون>> ومعهم مرشحو <<القوات>> في كسروان والمتن وجبيل. كأنه ثأر قديم مؤجل بين ميشال عون وسمير جعجع، وإلا فلماذا اختار <<الجنرال>> أن يحط رحاله الانتخابي مباشرة على مدرج <<حالات حتما>>؟ ترى بماذا سيرد جعجع بعد الإفراج عنه قريبا؟

 
لو اجتمع <<حكماء>> قرنة شهوان وقرروا المفاضلة بين ترشيح المارونيين الكسروانيين فريد الياس الخازن وفريد هيكل الخازن؟ لاعتبارات عائلية وتاريخية وسياسية وكسروانية وليس <<قرنوية>>، تأتي النتيجة لمصلحة الثاني. ومع سليم سلهب ونسيب لحود، حتما النتيجة في مصلحة الثاني. ومع منصور البون وجيلبيرت زوين، لا داعي لطول تفكير وبحث.
حسنا أن الاختبار لم يحصل، لأن الاختيارات كانت ستخالف النتائج الحقيقية. ولكن ماذا عن قرنة شهوان وليس حكماءها؟ هل انتهت <<القرنة>>؟

 
يأتي طرح السؤال غداة انتخابات جبل لبنان تحديدا. فمن فازوا في اطار مروحة تحالفات القرنة السياسية هما اثنان فقط: انطوان غانم وبيار الجميل. ومن خارج تحالفاتها أيضا اثنان: فريد الياس الخازن وسليم سلهب. اما الخاسرون من <<القرنويين>> فكثر: إدي أبي اللمع، صلاح حنين (بالعزوف مكرها)، غبريال المر، فارس سعيد، كميل زيادة، منصور البون، شكيب قرطباوي ونسيب لحود. انه رقم قياسي، ولو احتسبنا المنسحبين، مثل دوري شمعون والياس أبو عاصي وسيمون كرم ونديم سالم، أو مشاريع المنسحبين مثل د. فريد الخازن وسليم سلهب وشكيب قرطباوي <<لاعتبارات سياسية وانتخابية>>، أو بسبب <<تدابير تنظيمية>> مثل توفيق الهندي وجان عزيز، لأمكن القول إن نصف أعضاء القرنة صاروا خارجها. ولو تصورنا مشهد تبادل التهاني والتعازي بين الباقين، لأمكن تصور ارجحية درامية وعبوس في الوجوه. انه سلوك عفوي حقيقي صادق. إنها لعنة تاريخ السابع من أيار: تاريخ عودة <<الجنرال>>.

 
البدايات

عند الحديث عن <<قرنة شهوان>>، لا بد من استعادة السيرة والبدايات. التاريخ المباشر المعروف هو تاريخ الولادة الرسمية في العشرين من نيسان 2001. التاريخ الاعمق دون تحديده الدقيق اجتهادات بين القرنويين المستقلين والقرنويين الحزبيين. فهذا التاريخ إما متصل بالألفين (الانتخابات والتحرير... الخ)، وإما يعود إلى منتصف التسعينيات. ولا بأس من الاستعادة التاريخية، وتحديدا استعادة قرار حبس سمير جعجع وحل حزب <<القوات>>. آنذاك اكتمل مشهد النبذ للقوى الحية أو رموز الحرب المسيحية. واتسع نادي المنفى الباريسي (ريمون اده، دوري شمعون، أمين الجميل وميشال عون)، وأضحت دمشق مرجعية <<حزب كتائب الطائف>>. أيضا تم التعويل على قوى وازنة مسيحيا مثل <<مردة>> سليمان فرنجية، وافتعال قوى حزبية مسيحية على نمط <<الوعد>> وحزب القوميين بوظيفة ضمنية جاذبة بالدرجة الأولى للمسيحيين الموالين لدمشق... الخ.

 
منذ قرار حبس جعجع وحل <<القوات>> في منتصف العام 1994، دخلت الساحة المسيحية في حالة غيبوبة. توقيفات وتهديدات. عقدت في صيف العام 1996 اجتماعات على قاعدة <<دعونا نقم بشيء ما>>. طرحت فكرة <<التجمع الوطني>>، عبارة عن مظلة يتحرك من خلالها <<تيار القوات>> و<<التيار الوطني الحر>>. وُضع <<البرنامج المرحلي>> ل<<التجمع>> وطرحت فكرة أن يضم خليطا من القوى والشخصيات. توافق كل من ميشال عون ودوري شمعون وأمين الجميل على الحصرية الحزبية، لكن أقصيت <<القوات>> ربطا بحسابات قديمة جديدة.

 
وصول لحود
أفضى إقصاء <<القوات>> من جهة، وشعور شخصيات مسيحية مستقلة بوجوب الخوض في تجربة وحدوية لترميم العلاقات المسيحية المسيحية من جهة ثانية، إلى اجتماعات بعيدة عن الأنظار، ضمت سيمون كرم، فارس سعيد، سمير فرنجية، فريد الخازن، جبران تويني وتوفيق الهندي، حسب تأكيد الأخير. حصلت تلك الاجتماعات في العام 1997. كانت الفكرة الأساسية محاولة خلق دينامية مسيحية عبر إيجاد لقاء دوري يصار إلى إيجاد <<بطريرك سياسي>> متفاهم مع بكركي على رأسه مثل فؤاد بطرس. يقال إن بطرس رفض <<وفشلت المحاولة>>.

 
يكاد يتفق <<القرنويون>> على أن <<موجة>> وصول إميل لحود إلى موقع الرئاسة الأولى في العام 1998 هو الحدث المؤسس للقاء قرنة شهوان. حصلت ردات فعل تراوحت بين المبايعة والرفض وربط النزاع، وبدا السؤال الأبرز: هل يمكن أن يشكل وصول لحود فرصة للمصالحة بين الفئة المسيحية المستنكفة والمعترضة، وبين القيادة السورية؟

 
لم يتأخر جواب لحود. طار <<خطاب القسم>> وأُحبِط المراهنون عليه، ولم يكن بمقدور المعارضين له مواجهة مناخ التأييد العارم له. قاطع لحود أول قداس لمار مارون لأنه رئيس عابر للطوائف، وبعد فترة بايع الرئيس الراحل حافظ الأسد رئيسا لولاية جديدة. في العام 1999، حصلت حملات ملاحقة وتوقيف لناشطين عونيين وقواتيين. بدأ الحديث عن قانون انتخابي جديد. تطورت حدود الحلقة الفكرية السياسية المحيطة بالمطران يوسف بشارة. اتسعت الدعوة بطلب من البطريرك صفير ولبتها عشرون شخصية مسيحية بينها فؤاد بطرس وروبير غانم، بالإضافة إلى <<مجموعة المطران>> مثل فرنجية وسعيد وكرم والهندي وتويني وشكيب قرطباوي وسمير عبد الملك. عنوان اللقاء كان محددا: محاولة خلق <<اللقاء المسيحي من اجل قانون جديد للانتخابات النيابية>>. في المضمون، قيل إن <<لقاء انطلياس>> هو لقاء موضعي بحت ربطا بالاستحقاق الانتخابي على الأبواب. ولكن <<كان لا بد من اللجوء إلى خيمة بطريركية. ربما هو دليل خوف بالشكل والمضمون، لكن القدرة على مواجهة إميل لحود كانت صعبة جدا بغير هذه المظلة، ورغم ذلك، لم يوفرونا بالملاحقة والاستدعاءات والتحقيق وفتح الملفات القديمة... الخ>>، يقول احد أعضاء اللقاء.

 
"مجموعة ال12"
بدت عين السلطة مفتوحة على المشاركين في الاجتماعات واتصالاتهم: هل يمكن أن يتحولوا إلى مرجعية سياسية بغطاء بطريركي؟ سرعان ما تبددت هواجس الدولة، عندما قدم <<اللقاء>> تصوره العام للمعايير الانتخابية وحصلت الانتخابات من بعد و<<تفرفط الأحبة>>. لكن، في المقابل، تكرّست <<مجموعة ال12>> حول المطران بشارة، وهم: فرنجية، سعيد، كرم، قرطباوي، عبد الملك، تويني، سامي نادر (التيار الحر)، الهندي (القوات)، ميشال خوري، الخازن، إميل سلهب (الكتلة) والياس أبو عاصي (الأحرار). هذه هي قرنة شهوان الخفية التي مهدت لولادة القرنة العلنية بعد شهور قليلة. الفارق بين النواة الأولى، التي ضمت ستة، أن الثانية جعلت الحزبيين في صلب <<الموتور السياسي المسيحي>>.

 
احتشدت التطورات في العام ألفين. البداية مع فشل القمة التاريخية بين الرئيسين بيل كلينتون وحافظ الأسد. تحرير الجنوب اللبناني في الخامس والعشرين من أيار. رحل الرئيس حافظ الأسد في التاسع من حزيران. أتى بشار الأسد رئيسا لسوريا. انتخابات نيابية وفق قانون الألفين، اي قانون غازي كنعان. صدر نداء المطارنة الموارنة في العشرين من أيلول ووضع العنوان السوري السياسي والعسكري نقطة أولى على جدول الأعمال. قبل الخروج الإسرائيلي ليس واردا عند صفير تقديم العنوان السيادي المتصل بسوريا. استنتجت <<القرنة الخفية>> أن مجيء بشار سيغير الكثير في التوازنات الداخلية اللبنانية. دخل فؤاد بطرس على الخط. قيل له الكثير من الكلام ولم يترجم حرفا واحدا. بدا أن الملف المسيحي الحقيقي بيد لحود، وكل ما يتصل بالحوار غير المباشر مع بكركي مجرد تقطيع للوقت. وبدأ الحديث عن إعادة الانتشار السوري بعد التصريح الشهير لنبيه بري من بكركي.

 
أعادت انتخابات الألفين رفيق الحريري إلى رئاسة الحكومة في ظل توزيع غير صارم للمهام السياسية والاقتصادية بينه وبين إميل لحود. استمر التناغم البطريركي من خلال <<القرنة الخفية>> مع شخصيات في المقلب الآخر، ولا سيما وليد جنبلاط الذي رفع سقف خطابه السياسي الداخلي وخاصة في الموضوع السوري.

 
ضجت <<القرنة الخفية>> بالنقاشات. المناخات تشي بالتحضير لهجوم سياسي مضاد ضد البطريرك صفير، خاصة بعد عودته من رحلته إلى الولايات المتحدة في آذار الألفين وواحد. عاد البطريرك وأقيم له استقبال كبير لا مثيل له من قبل في بكركي. طارت <<ضبانات>> السلطة. بدا أن ثمة عناصر قوة تتجمع في المناخات الإقليمية والدولية ولا بد من مواكبتها محليا. إميل لحود يضعف ومعه سوريا. لا بد من مبادرة سياسية ما. في هذا المناخ السياسي نشأت قرنة شهوان العلنية في الثلاثين من نيسان 2001 وأطلقت وثيقتها التأسيسية بعنوان <<من اجل حوار وطني>>.

 
(غداً الجزء الثاني: عن القرنة ما بين الولادة الرسمية والانتخابات النيابية)